الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} يقول الحق جلّ جلاله: {قال قائِلٌ منهم} أي: من أهل الجنة {إِني كان لي قَرِينٌ} في الدنيا، قيل: كان شيطاناً، وقيل: من الإنس، ففيه التحفُّظ من قرناء السوء، وقيل: كانا شريكين بثمانية آلاف دينار، أحدهما: قطروس، وهو الكافر، والآخر: يهوذا، المؤمن، فكان أحدهما مشغولاً بعبادة الله، وكان الآخر مُقبلاً على ماله، فحلَّ الشركة مع المؤمن، وبقي وحده؛ لتقصير المؤمن في التجارة، وجعل الكافر كلما اشترى شيئاً من دار، أو جارية، أو بستان، عرضه على المؤمن، وفخر عليه، فيمضي المؤمن، ويتصدّق بنحو ذلك، ليشتري به من الله تعالى في الجنة. فكان من أمرهما في الجنة ما قصّه اللهُ تعالى في هذه الآية. قال السهيلي: هما المذكوران في سورة الكهف بقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ...} [الكهف: 32] إلخ. {يقول} أي: قرين السوء، لقرينه المؤمن في الدنيا: {أَئِنَّك لمِنَ المُصدِّقين} بالبعث؟ {أَئِذَا مِتْنا وكنا تراباً وعظاماً أَئِنا لمدينون} لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ من: الدين، وهو الجزاء. {قال} ذلك القائل لمَن معه في الجنة: {هل أنتم مُطَّلِعُون} معي إلى النار، لأريكم حال ذلك القرين. قيل: إن في الجنة كُوىً ينظر أهلُها منها إلى أهل النار. قلت: حال الجنة كله خوارق، فيُكشف لهم عن حال أهل النار كيف شاء. وقيل: القائل: هو الله، أو: بعض الملائكة. يقول لهم: هل تُحبون أن تطلعوا على أهل النار، لأريكم ذلك القرين، أو: لتعلموا منزلتكم من منزلتهم. قال الكواشي: أو: إن المؤمن يقول لإخوانه من أهل الجنة: هل أنتم ناظرون أخي في النار؟ فيقولون له: أنت أعرف به منا، فانظر إليه. {فاطَّلَع} على أهل النار {فرآه} أي: قرينه {في سواءِ الجحيم} في وسطها. {قال تالله إِنْ كِدتَّ لتُردِينِ} لتُهلكني بإغوائك. و«إن» مخففة، واللام: فارقة، أي: إنه قربت لتهلكني، {ولولا نعمةُ ربي} عليَّ بالهداية، والعصمة، والتوفيق للتمسُّك بعروة الإسلام، {لكنتُ من المحْضَرين} معك، أو: من الذين أُحضروا العذاب، كما أُحْضِرْتَه أنت وأمثالك. {أفما نحن بميتين إِلا مَوْتتنا الأولى وما نحن بمعذَّبين} الفاء للعطف على محذوف، أي: أنحن مخلّدون فما نحن بميتين ولا معذّبين. وعلى هذا يكون الخطاب لرفقائه في الجنة، لما رأى ما نزل بقرينه، ونظر إلى حاله وحال رفقائه في الجنة، تحدُّثاً بنعمة الله. أو: قاله بمرأى من قرينه ومسمع؛ ليكون توبيخاً له، وزيادة تعذيب، ويحتمل أن يكون الخطاب لقرينه، كأنه يقول: أين الّذي كنت تقول في الدنيا من أنَّا نموت، وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب؟ كقوله: {إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى} [الدخان: 35] والتقدير: أكما كنت تزعم هو ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمعذَّبين، بل الأمر وقع خلافَه، وكان يقال له: نحن نموت ونُسأل في القبر، ثم نموت ونحيا، فيقول: ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذَّبين. وقوله تعالى: {إِنَّ هذا لهو الفوزُ العظيمُ...} إلخ، يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه، وأن يكون من خطاب الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام، أي: إن هذا النعيم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم. ثم قال الله عزّ وجل: {لمِثْلِ هذا فليعملِ العاملون} أي: لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا للحظوظ الدنيوية، المشوبة بالآلام، السريعة الانصرام. أو: لمثل هذا فليجتهد المجتهدون، ما دام يُمكنهم الاجتهاد، فإنَّ الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فبقدر ما يزرع هذا يحصد ثَمَّ، وسيندم المفرط إذا حان وقت الحصاد. الإشارة: تنسحب الآية من طريق الإشارة على مَن رام النهوض إلى الله، بصحبة الرجال في طريق التجريد، فينهاه رفقاؤه، فيخالفهم، وينهض إلى الله، فإذا كان يوم القيامة رُفع مع المقربين، فيقول لهم: إني كان قرين يُنكر طريقَ الخصوص، وينهاني عن صحبتهم، فيطلع عليه، فيراه في أسفل الجنة، مع عامة أهل اليمين، فيحمد الله على مخالفته، ويقول: لولا نعمةُ ربي لكنتُ من المحضَرِينَ معك. قال القشيري: فيقول الوليُّ له: إن كدتَّ لتُردين، لولا نعمةُ ربي. نطقوا بالحق، ولكنهم لم يُصَرِّحوا بعين التوحيد؛ إذ جَعَلوا الفضلَ واسطة، والأَوْلى أن يقول: ولولا ربي لكنتُ من المحضَرين. ثم يقول: لمثل هذا فليعملِ العاملون. ثم قال: فإذا بدت شظيةٌ، من الحقائق، أو ذَرةٌ من نسيم القربة، فبالحريِّ أَن يقول القائل: لمِثل هذا الحال تُبذلُ الأرواحُ، وأنشدوا: على مِثْلِ ليلى يَقْتُلُ المرءُ نَفْسَه *** وإِن بات من ليلى على اليأس طاويا
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} يقول الحق جلّ جلاله: {أَذَلِكَ خيرٌ نُّزلاً أم شجرةُ الزقوم} أي: أنعيم الجنة وما فيها من اللذات، والطعام، والشراب، خيرٌ نُزُلاً أم شجرة الزقوم؟ النُزل: ما يُقَدم للنازل من الرزق. و«نزلاً»: تمييز، وفي ذكره: تنبيه على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يُقدم للنازل، ولهم من وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار. قال ابن عطية: في البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرةٌ، مُرَّة، مسمومة، لها لبنٌ، إن مسَّ جسم أحد تورَّم ومات منه، في غالب الأمر، تُسَمَّى شجرة الزقوم. والتزقُّم: البلعُ على شدة وجهد. ه. وفي الحديث: «لو أن قطرةً من الزقوم قُطرَتْ في بحار الدنيا لأفسدتْ على أهل الأرض معايشهم. فكيف بمَن يكون الزقومُ طعامُه» وقال ابن عرفة: هذه الشجرة يحتمل أن تكون واحدة بالنوع، فيكون كل جهة من جهات جهنم فيها شجرة، أو: تكون واحدة بالشخص. ه. {إِنا جعلناها فتنةً للظالمين} محنةً وعذاباً لهم في الآخرة، وابتلاء لهم في الدنيا. وذلك أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة، والنار تحرق الشجر؟ ولم يعلموا أنَّ مَنْ قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذّذ بها وهو السمندل كيف لا يقدر على خلق شجر في النار، وحفظه من الإحراق؟ {إِنها شجرةٌ تخرجُ في أصل الجحيمِ}، قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها، وهذا يؤيد أنها واحدة بالشخص. {طَلْعُها} أي: حملها {كأنه رؤوس الشياطين} الطلع للنخلة، فاستعير لما يطلع من شجرة الزقوم من حملها، وشُبِّه برؤوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة، وقُبح المنظر؛ لأن الشيطان مكروه مستقبَح في طباع الناس؛ لاعتقادهم أنه شرّ محض. وقيل: الشياطين: حيَّات هائلة، قبيحة المنظر، لها أعراف يقال لها شياطين. وقيل: شبه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقُبحها، وإن كانت لا ترى، كما شبهوا سنان الرماح بأنياب أغوال، كما قال امرؤ القيس: أَيَقتُلُني والمشْرَفيُّ مُضَاجِعي *** ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأنيابِ أغْوَالِ {فإِنهم لآكلونَ منها} أي: من طلع تلك الشجرة، {فمالِئُون منها البطونَ} مما يبلغهم من الجوع الشديد، فيملؤون بطونهم منها مع تناهي بشاعتها، {ثم إِنَّ لهم عليها} على أكلها، أي: بعدما شَبِعوا منها، وغلبهم العطش، وطال استقاؤهم، {لَشَوْباً من حميم} أي: لشراباً من غساق، أو: حديد، مشوباً بماء حار، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم، في مقابلة ما قال في شراب أهل الجنة: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] وأتى ب «ثم»؛ لما في شرابهم من مزيد البشاعة والكراهة؛ فإِنَّ الزقوم حار محرق، وشرابهم أشد حرًّا وإحراقاً. {ثم إِن مرجِعَهُم لإِلى الجحيم} أي: إنهم يُخرجون من مقارهم في الجحيم وهو الدركات التي أُسْكِنُوها إلى شجرةَ الزقوم، فيأكلون منها إلى أن يتملَّوا. ويشربون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، كما تورد الإبل، ثم ترد إلى وطنها. ومعنى التراخي في ذلك ظاهر. ثم ذكر سبب عذابهم، فقال: {إِنهم أَلْفَوا آباءَهُم ضالِّينَ فهم على آثارهم يُهْرَعُون} علّل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد آبائهم في الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد. كأنهم يزعجون ويُحثّون حثّاً. وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى اتباعهم من غير توقف ولا نظر. {ولقد ضلَّ قبلهم} قبل قومك قريش {أكثرُ الأولين} يعني الأمم الماضية، بالتقليد وترك النظر. {ولقد أرسلنا فيهم مُّنذِرِين} أنبياء، حذّروهم العواقب. {فانظر كيف كان عاقبة المنذَرِين} الذين أنذروا، وحذّروا، فقد أُهلكوا جميعاً، {إِلا عبادَ اللهِ المخلصين} أي: إلا الذين آمنوا، وأخلصوا دينهم لله، أو: أخلصهم الله لدينه، على القراءتين. الإشارة: إذا قامت القيامة انحاز الجمال كله إلى أهل الإيمان والإحسان، وانحاز الجلال كله إلى أهل الكفر والعصيان، فيرى المؤمنُ من جماله تعالى وبره وإحسانه ما لا تفي به العبارة، ويرى الكافر من جلاله تعالى وقهره ما لا يكيف. وأما في دار الدنيا فالجمال والجلال يجريان على كل أحد، مؤمناً أو كافراً، كان من الخاصة أو العامة، غير أن الخاصة يزيدون إلى الله تعالى في الجلال والجمال؛ لمعرفتهم في الحالتين. وأما العامة فلا يزيدون إلا بالجمال؛ لإنكارهم في الجلال. والمراد بالجلال: كل ما يقهر النفس ويذلها. والله تعالى أعلم.
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)} يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد نادانا} أي: دعانا {نوحٌ} حين أيس من قومه بقوله: {أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر: 10] أو: دعانا؛ لِنُنجيه من الغرق، {فَلَنِعْمَ المجيبون} أي: فأجبناه أحسن الإجابة، ونصرناه على أعدائه، وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون، فوالله لَنِعْمَ المجيبون نحنُ، فحذف القسم؛ لدلالة اللام عليه. وحذف المخصوص، والجمع؛ دليل العظمة والكبرياء. {ونجيناه وأهلَه} ومَن آمن به وأولاده المؤمنين {من الكَرْبِ العظيم} وهو غمّ الغرق، أو: إذاية قومه، {وجعلنا ذريتَه هم الباقين} وقد فني غيرهم. قال قتادة: الناسُ كلهم من ذرية نوح، وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام وهو أبو العرب وفارس والروم وحام وهو أبو السودان، من المشرق إلى المغرب ويافث وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج وقد نظمه بعضهم، فقال: العرب والروم وفارس اعلمن *** أولاد سام فيهم الخير كَمَن من نسل حام نشا السودان *** شرقاً وغرباً، ذا له برهان يأجوج مأجوج من الصقالبة *** ليافث، لا خير فيهم قاطبه {وتركنا عليه في الآخِرِين} أي: وأبقينا عليه الثناء الحسن في الأمم الآخِرِين، الذين يأتون بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، {سلامٌ على نوح}: مبتدأ وخبر، استئناف، {في العالمين} يعني: أنهم يُسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، أي: ثبتت هذه التحية فيهم، ولا يخلو أحد منهم منها، كأنَّ الله أثبت التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين، يسلّمون عليه عن آخرهم. {إِنا كذلك نجزي المحسنين} فنُكرمهم ونُحييهم، وهو تعليل لما فعل بنوح من التكرمة السنية، بأنه مجازاة له على إحسانه، {إِنه من عبادنا المؤمنين} علّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً؛ ليريك جلاله محلّ الإيمان. {ثم أغرقنا الآخَرِين} أي: الكافرين. ذكر في كتاب حياة الحيوان، عن القشيري: أن العقرب والحية أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا: احملنا معك، ونحن نعاهدك ألا نضر أحداً ذكرك، فحملهما. فمَن قرأ، حين يخاف مضرتهما، حين يمسي وحين يصبح: سلام على نوح في العالمين، ومحمد في المرسلين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، ما ضرتاه. ه. وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: «مَن قال حين يُمسي وحين يُصبح: أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خَلَقَ، لم يضره شيء». الإشارة: إذا تحقق الإيمان والإحسان في عبد أُعطي ثلاث خصال: نفوذ الدعوة، والثناء الحسن بعده، والبركة في الذرية، كل ذلك مقتبس من قضية نوح عليه السلام.
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} قلت: (أَئِفكاً): مفعول له، و(آلهة): مفعول «تُريدون»، أي: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً وزُوراً. وإنما قدَّم المفعول به على الفعل للعناية له، وقدّم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم، ويجوز أن يكونَ «إفكاً» مفعولاً به، أي: أتريدون إفكاً. ثم فسّر الإفك بقوله: {آلهة دون الله} على أنها إفك في نفسها، أو: حالاً، أي: أتريدون آلهة من دون الله آفكين. يقول الحق جلّ جلاله: {وإِنَّ من شيعتهِ} أي: نوح {لإِبراهيمَ} أي: ممن شايعه على أصول الدين، وإن اختلفا في الفروع، أو: شايعه على التصلُّب في دين الله، ومصابرة المكذِّبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وما كان بينهما إلا نبيَّان: هود، وصالح. {إِذْ جاء ربَّه}: متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة، أي: وممن شايعه على دينه إبراهيم، حين جاء ربه {بقلبٍ سليمٍ} من الشرك، أو: من آفات القلوب، ومعنى المجيء بقلبه ربه: أنه أخلص لله قلبه، وعلم ذلك منه. {إِذْ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون} «إذ»: بدل من الأولى، أو: ظرف لجاء، أو: لسليم، {أئِفكاً آلهةً دون الله تريدون} أتريدون آلهة تعبدونها من دون الله إفكاً وزوراً وباطلاً. {فما ظَنُّكُم بربِّ العالمين} يفعل بكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، فما تقولون، وكيف بكم في مقام الخجل الذي بين أيديكم، وإن كنتم اليوم غائبين عنه؟ أو: أيّ شيء ظنكم بمَن هو حقيق بالعبادة؛ لكونه رب العالمين، حتى تركتم عبادته، وأشركتم معه غيره، أَو أمنتم عذابه؟ الإشارة: لا يكون العبد إبراهيميًّا حنيفيًّا حتى يقدس قلبه مما سوى الله، ويرفض كلَّ ما عبده الناسُ من دون الله، كحب الدنيا، والرئاسة، والجاه، فيجيء إلى الله بقلب سليم، أي: مقدس من شوائب الطبيعة، فهو سالم مما دون الله؛ لاتصاله بالله. قال القشيري: «بقلب سليم» لا آفة فيه. ويقال: لديغٍ مِن محبة الأغيار، أو: من الحظوظ، أو: من الاختيار والمنازعة. والله تعالى أعلم.
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} يقول الحق جلّ جلاله: {فَنَظَر} إبراهيم {نظرةً في النجوم} وذلك أن قومه كانوا يتعاطون علم النجوم، فعاملهم بما يعلمون؛ لئلا ينكروا عليه تخلُّفه. وكانوا يقولون: إذا طلع سهيل مقابل الزهرة سَقِمَ مَن نظر إليه، فاعتلّ عليهم؛ لأنه نظر إليه ليتركوه. وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم، فيقربون إليها القرابين، ويضعون بين أيديها الطعام، قبل خروجهم إلى عيدهم، لتبارك عليه، فإذا قَدِمُوا أكلوه. فلما نظر إلى النجوم، قال: {إِني سقيمٌ} إني مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم، وتركوه في بيت الأصنام، ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. قيل: إن علم النجوم كان حقًّا ثم نُسخ الاشتغال به. والكذب حرام إلا إذا عرّض. والذي قاله إبراهيم عليه السلام مِعْراض من الكلام، أي: سأسقم، أو: مَنْ في عنقه الموت سقيم، أو: سقيم مما أرى من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام. وعلى كل حال لم يلم إبراهيمُ بشيء من الكذب، وإنما عرّض. وأيضاً: إنما كان لمصلحة، وقد أُبيح لها، كالجهاد ونحوه. وفي الحديث: «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، ما منها واحدة إلا وهو يناضل عن دينه؛ قوله: {إِني سقيم}، وقوله: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63]، وقوله لسارة: هي أختي». قال السدي: خرج معهم إلى بعض الطريق، فوقع في نفسه كيده آلهتهم، فقال: إني سقيم أشتكي رجلي. {فتولوا عنه مدبرين} أعرضوا عنه مولين الأدبار، {فراغَ إِلى آلهتهم} فمال إليها سرًّا، وكانت اثنين وسبعين صنماً من خشب، وحديد، ورصاص، ونحاس، وفضة، وذهب، وكان كبيرهم من ذهب، في عنقه ياقوتتان، {فقال} لها، استهزاء: {ألا تأكلون} من الطعام الذي وُضع عندكم، {ما لكم لا تنطقون} ؟ والجمع بالواو والنون؛ لأنه خاطبها خطاب مَن يعقل. {فَرَاغَ عليهم} فمال إليهم سرًّا، فضربهم {ضرباً باليمين} أي: ضرباً شديداً بالقوة؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما، أو: بالقوة والمتانة، أو: بسبب الحلف الذي سبق منه بقوله: {وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} [الأنبياء: 57]. {فأقبلوا إِليه} إلى إبراهيم {يَزِفُّونَ}: يسرعون، من: الزفيف، وهو الإسراع. وكان قد رآه بعضهم يكسرها. فأخبرهم، فلما جاء مَن لم يره قال لمَن رآه: {مَن فَعَلَ هَذَا بِئَالِهَتِنَآ} [الأنبياء: 59] فأجابوه على سبيل التعريض: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]، ثم قالوا بأجمعهم: نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم بقوله: {قال أتعبدون ما تنحتون}: ما تنجزونه بأيديكم من الأصنام؟ {واللهُ خلقكم وما تعملون} أي: وخلق ما تعملونه من الأصنام: أو: «ما» مصدرية، أي: وخلق أعمالكم. وهو دليلنا في خلق الأفعال لله تعالى، أي: الله خالقكم وخالق أعمالكم، فلِمَ تعبدون غيره؟!. {قالوا ابْنُوا له} أي: لأجله {بُنياناً} من الحجر، طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه عشرون ذراعاً، {فَأَلْقُوه في الجحيم} في النار الشديدة، وقيل: كل نار بعضها فوق بعض فهو جحيم. فبنوه وملؤوه حطباً، وأضرموه ناراً، {فأَرادوا به كيداً} بإلقائه في النار، {فجعلناهم الأسفلين} المقهورين عند إلقائه، حين خرج من النار سالماً، فعلاهم بالحُجة والنصرة. قيل: ذكر أسفل: هنا؛ لمناسبة ذكر البناء، بخلاف سورة الأنبياء. {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70]. الإشارة: كلُّ عبدٍ مأمور بكسر صنمه، وهو: ما تَرْكَنُ إليه نفسُه من حظٍّ، أو هوىً، أو علم، أو عمل، أو حال، أو مقام. وفي الإشارات عن الله تعالى: لا تركنن لشيء دوننا، فإنه وبال عليك، وقاتلٌ لك، فإن ركنتَ إلى العلم تتبعناه عليك، وإن أويتَ إلى العمل رددناه إليك، وإن وثقت بالحال وقفناك معه، وإن أنست بالوجد استدرجناك فيه، وإن لحظت إلى الخلق وكلناك إليهم، وإن اعتززت بالمعرفة نكرناها عليك، فأيّ حيلة لك، وأيّ قوة معك؟ فارضنَا لك ربًّا حتى نرضاك لنا عبداً. ه. ولا بأس أن يتعلّل لنفسه، ويحتال عليه بحيل، كما تعلّل الخليل للقعود لكسر الأصنام، لعلها تُوافقه على ترك ما تهواه وتركن إليه، كما قال القائل: فاحتلْ على النفس فرُبّ حيله *** أنفع في النصرة من قبيله
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} قلت: «معه»: يتعلق بمحذوف، أي: بلغ السعي يسعى معه، ولا يتعلق ببلغ؛ لأنه يقتضي الاشتراك في البلوغ، ولا بالسعي؛ لأن المصدر لا يتقدم عليهم عموله، إلا أن يُقال: يتسع في الظروف ما لا يتسع في غيرها. يقول الحق جلّ جلاله: {وقال} إبراهيمُ: {إِني ذاهبٌ إِلى ربي} إلى موضع أمرني ربي بالذهاب إليه، وهو الشام، أو: إلى مرضاة ربي، بامتثال أمره بالهجرة أو: إلى المكان الذي أتجرّد فيه إلى عبادة ربي، {سَيَهدين} أي: سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني، أو: إلى مقصدي، وإنما بتَّ القول لسبق وعده؛ لأن الله وعده بالهداية، أو: لفرط توكله، أو: للبناء على عادته معه. ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث عبَّر بما يقتضي الرجاء. ثم قال: {ربِّ هَبْ لي من الصالحين} بعض الصالحين، يُعينني على الدعوة والطاعة، ويُونسي في الغربة. يريد الولد؛ لأن لفظ الهبة غلب على الولد. {فبشَّرناه بغلامٍ حليم} انطوت البشارة على ثلاث: على أنّ الولد ذكر، وأنه يبلغ أوانَ الحُلم؛ لأن الصبيَّ لا يُوصف بالحلم، وأنه يكون حليماً، وأيّ حليم أعظم من حلمه، حيث عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق، فقال: {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، ثم استسلم. وقيل: ما نعت الله نبيًّا بالحلم إلا إبراهيم وابنَه؛ لمَعَزَّةِ وجوده. {فلما بلغ معه السعيَ} أي: فلما وُجدَ وبلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، أي: الحدّ الذي يقدر على السعي مع ابنه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل: سبع سنين. {قال يا بُني إِني أرى في المنام أَنِّي أَذْبَحُك} أي: قيل له في المنام: اذبح ابنك. ورؤيا الأنبياء وحي، كاليقظة. قال الكواشي: لم يرَ أنه يذبحه في النوم، ولكنه أُمر في النوم بذبحه، بدليل قوله: {افعل ما تؤمر}. وقيل: رأى أنه يُعالج ذبحه، ولم يرَ إراقة الدم. وقال قتادة: رؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئاً فعلوه. وفي رؤيا ذلك في النوم وتحققه إياه حتى عمل بما رأى، إيذان بأن الأنبياء قد تجوهرت نفوسهم، فلا مجال للكذب فيما يُوحى إليهم، وفيما يصدر عنهم، فهم صادقون مصدِّقون، فليس للشيطان عليهم سبيل، وإيذان بأن مَن كان في منامه صادقاً كان يقظته أولى بالصدق. ه. وإنما لم يقل: «رأيت»؛ لأنه رأى مرة بعد أخرى، فقد قيل: رأى ليلة التروية كأنّ قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روَّى في ذلك من الصباح إلى الرواح؛ ليعلم أَمِنَ اللهِ هذا الحلم، أم لا، فسُمِّي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فسُمِّي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمَّ بنحره، فسُمِّي يوم النحر. واخْتُلِف مَن المخاطب المأمور بذبحه، فقال أهل الكتابين: هو إسحاق، وبه قال عمر، وعليّ، وابن مسعود، والعباس، وابنه عبد الله، وكعب الأحبار، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، والقامس بن أبي بَرّة، وعطاء، ومقاتل، والزهري، والسدي. قال سعيد بن جبير: أُريَ إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به على البراق مسيرة شهر في غداة واحدة، حتى أتى المنحر بمِنى، فلما صرف عنه الذبح، وأمره أن يذبح الكبش، وذبحه، سار به مسيرة شهر في روحة واحدة، طُويت له الأودية والجبال. ه. واحتج أهل هذا القول بأنه ليس في القرآن أن إبراهيم بُشِّر بولد إلا بإسحاق، وقال هنا: {فبشرناه بغلام} فتعيَّن أنه إسحاق؛ إذ هو المبَشَّر به في غير هذه الآية، وبأن الذي كان يسعى معه في حوائجه وأشغاله إنما هو إسحاق، وأما إسماعيل فإنما كان بمكة غائباً عنه، ولم يثبت في الصحيح أن إبراهيم قَدِمَ مكة إلا ثلاث مرات وإسماعيل متزوج. وبما رُوي أن موسى عليه السلام قال: يا رب؛ الناس يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبمَ ذلك؟ فقال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلا اختارني، وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو لي بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاءً زاد لي حسن ظن. وقال يوسف للملك: أترغب أن تأكل معي، وأنا والله يوسف بن يعقوب، نبي الله، ابن إسحاق، ذبيح الله، ابن إبراهيم، خليل الله. وبما رُوي أن نبينا عليه الصلاة والسلام سُئل: أي النسب أشرف؟ فقال: «يوسف صدِّيق الله، ابن يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله» وفي الجامع الصغير: «الذبيح إسحاق» رواه الدارقطني عن ابن مسعود، والبزار وابن مردويه عن العباس، وأبي هريرة. وقال آخرون: هو إسماعيل، وبه قال عُمر، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، وابن عباس أيضاً، وغيرهم. واحتجُّوا بأن البشارة بإسحاق متأخرة عن قصة الذبح. وبقوله عليه السلام: «أنا ابن الذبيحين» فأحدهما: جده إسماعيل، والآخر: أبوه، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سَهُل له حفر زمزم، أو بلغ بنوه عشراً، فلما سَهُل، أقرع بينهم، فخرج السهم على عبد الله، فَفَدَاه بمائة من الإبل، ولذلك سنت الدية مائة. وبأن ذلك كان بمكة، وكان قرنا الكبش معلَّقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة. ه. وقد يُجاب بأن البشارة أولاً كانت بولادته، والثانية بنبوته، أو: بسلامته. وبأن الثانية تفسير للأولى، كأنه قال بعدما فرغ من ذكر المبشر به: وكانت تلك البشارة بإسحاق. قاله الفاسي في حاشيته. وعن الحديث بأن العم يُطلق عليه أباً، كقوله تعالى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وكان عمًّا له، وتقدّم عن ابن جبير أن إبراهيم سار بابنه على البراق إلى مكة وحيث كان الذبح بها بقي القربان فيها. والله تعالى أعلم بغيبه. ولَمَّا قال له: {إِني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} به {ستجدني إِن شاء الله من الصابرين} على الذبح. رُوي أن إبراهيم قال لابنه: انطلق بنا نُقرب قرباناً لله تعالى، فأخذ سكيناً وحبلاً، ثم انطلق معه، حتى إذا ذهب بين الجبال، قال له الغلام: يا أبتِ أين قربانك؟ فقال: {يا بُني إِني أرى في المنام...} الآية، فقال: يا أبت خذ بناصيتي، واجلس بين كتفي، حتى لا أؤذيك إذا أصابتني الشفرة، ولا تذبحني وأنا ساجد، واقرأ على أمي السلام، وإن رأيت أن تردّ قميصي إلى أمي فافعل، عسى أن يسليها عني. قال إبراهيم: نِعْمَ العون أنت على أمر الله تعالى. فربطه إبراهيم عليه السلام ثم جعل يُقبّله، وهو يبكي، والابن يبكي، حتى استنقعت الدموع تحت خده. {فلما أَسْلَمَا} أي: انقادا لأمر الله وخضعا. وعن قتادة: أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه. {وتَلَّه للجبين} صرعه على جنبه، ووضع السكين على حلقه، فلم تعمل، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي: يا إبراهيم قد صدّقتَ الرؤيا. رُوي أنَّ ذلك المكان عند الصخرة التي بمِنى. وجواب «لما» محذوف، أي: فلما أسلما رُحما وسَعدا. وقال بعض الكوفيين: الجواب: (وتله) والواو: زائِدة. وقال الكسائي: الجواب: (وناديناه) والواو زائدة. وقال الخليل وسيبويه: الجواب محذوف، أي: فلما أسلما سَلِما. وقدّر الراضي: فلما أسلما كان من لطف الله ما لا يوصف. ه. {وناديناه أن يا إِبراهيمُ قد صَدَّقْتَ الرؤيا} أي: حققت ما أمرناك به في المنام، من تسليم الولد للذبح، وبالعزم والإتيان بالمقدمات، {إِنا كذلك نجزي المحسنين} تعليل لما خوّلهما من الفرج بعد الشدة. والحاصل: أن الجزاء هو الوقاية من الذبح، مع إمرار السكين، ولم تقطع، جزاء على إحسانهما، وقد ظهرت الحكمة بصدقهما، فإن المقصود إخلاء السر من عادة الطبيعة، لا تحصيل الذبح، رُوي أنه لما أمرّ السكين فلم تقطع، تعجّب. فنُودي: يا إبراهيمُ كان المقصود من هذا استسلامكما، لا ذبح ولدك. {إِنَّ هذا لَهُوا البلاءُ المبينُ} الاختبار البيّن، الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو: المحنة البيّنة الصعبة، فإنه لا محنة أصعب منها. {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}: ضخم الجثة سمين. قال ابن عباس: هو الكبشُ الذي قرّبه هابيل فقُبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فُدِي به ولد إبراهيم. وعنه: لو تمت تلك الذبيحة لصارت سُنَّة، وذَبَحَ الناسُ أولادهم. رُوي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة، فرماه؛ سبع حصيات، حتى أخذه، فبقيت سُنَّة في الرمي. قلت: والجمهور: أن الشيطان تعرض له عند ذهابه لذبح ولده، ثلاث مرات، فرماه سبع حصات عند كل مرة، فبقيت سُنَّة في الرمي. ورُوي أنه لما ذبحه، قال جبريل: الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله، والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقيت سُنَّة صبيحة العيد. قال البيضاوي: واحتج به من جوّز النسخ قبل الفعل، فإنه عليه السلام كان مأموراً بالذبح، لقوله: {افعل ما تؤمر} ولم يحصل. ه. قال سيدي عبد الرحمن الفاسي في الحاشية: وَلَمَّا بذل إبراهيم وسعه، وفعل ما يفعله الذابح من ضجعه على شقه، وإمرار الشفرة على حلقه، لم يكن هذا من النسخ قبل الفعل، وإن كان ورود النسخ قبل الفعل جائز، لكن هذه الآية ليست منه في شيء؛ لأنه عليه السلام باشر الفعل بقدر الإمكان وبذل المجهود، ولم يكن منه تقصر، ولو لم يمنع مانع القدرة الإلهية لتمّ الذبح المأمور به، لهذا قال تعالى: {صَدَّقْتَ الرؤيا} وإنما احتيج إلى الفداء لتحصيل حقيقة الذبح فيه نيابة عن المفدي شرعاً، وعلامة على غاية القبول والرضا عنهما، وعوض عن ذلك ما هو كرامة لهما، ولمَن بعدهما إلى غابر الدهر. ه. وقيل: إن هذه الآية نُسخ بها الأمر بالذبح قبل التمكين من الفعل، بناءً على أن إبراهيم لم يمر الآلة. وعزاه المحلي في جميع الجوامع لمذهب أهل السنة. وعليه ينزل الفداء، ثم قال: والحق: إن الآية من المنسخ قبل تمام الفعل وكماله، لا قبل الأخذ فيه ومعالجته. ثم اعترض كلام ابن عطية، وقال: فيه تدافع، فانظره. {وتركنا عليه في الآخِرِين} أي: الثناء الحسن في الأمم الآخرين، {سلامٌ على إبراهيم} سبق بيانه في نوح {كذلك نجزي المحسنين} لم يقل: إنا كذلك، هنا، كما في غيره؛ لأنه قد سبق في القصة، فاكتفى هنا عن ذكره. {إِنه من عبادنا المؤمنين} فيه تنويه بشأن الإيمان؛ لأنه أساس لكل ما يُبنى عليه من معرفةٍ وإحسان. الإشارة: قال إني ذاهب إلى ربي بالتوجه والعزم، سيهدين إلى صريح معرفته، ومكافحة رؤيته، ودوام شهوده. فالذهاب إليه يُفضي إلى الذهاب فيه، وهو غيبة العبد عن شهود نفسه، بشهود محبوبه، وهذه الحالة متبوعة للامتحان؛ إذ امتحان كل عبد على قدر مقامه، فكلما علا المقام عَظُمَ الامتحان. فامتحن الخليل بأربع محن: تسليم بدنه للنيران، وولده للقربان، ورمي آخر عند البيت في يد الرحمن، وذهاب زوجه للجبّار، فوقع اللطف في الجميع، واصطفى خليلاً للرحمن. وأيضاً: الحق غيور، لا يُحب أن يرى في قلب خليله أو وليّه شيئاً سواه، فأمر بذبح ولده؛ لإخراجه من قلبه، كما فرّق بين يوسف ووالده، وامتحن حبيبَه صلى الله عليه وسلم في عائشة صدِّيقته، وهذه عادة الله مع أصفيائه. قال القشيري: يُقال في القصة: أنه رآه راكباً على فرس أشهب، فاستحسنه، ونظر إليه بقلبه، فأُمر بذبحه، فلما أخرجه من قلبه، واستسلم لذبحه، ظَهَرَ الفداء. وقيل له: كان المقصودُ من هذا فراغَ قلبك منه، لا ذبحه. ويقال في القصة: أنه أمَرَ أباه أن يَشُدّ يديه ورِجْلَيه؛ لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذبح، فيُعاتَب، ثم لمَّا هَمَّ بذبحِه قال: افتح القيدَ عني، فإني لا أتحرك، فإني أخشى أن أُعاتب، فيقول: أمشدودَ اليد جئتني؟ وأنشدوا: ولو بيدِ الحبيبِ سُقِيتُ سُمًّا *** لكان السُّمُّ من يدهِ يطيب قيل: إن الولد كان أشدَّ بلاء، لأنه وَجَدَ الذبح من يد أبيه، ولم يتعوَّد منه إلا التربية بالجميل، فكان البلاء منها أشد؛ إذ لم يتوقعه منها. وقيل: بل إبراهيم أشد بلاء؛ لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده، ويعيش بعده، ولم يأتِ الولد بالدعوى، بل قال: إن شاء الله، فتأدّب بلفظ الاستثناء. ثم قال: ويقال: إنَّ الله ستر عليهما ما عَلِمَ أنه أريد منهما في حال البلاء، وإنما كشف لهما بعد مُضِيِّ وقت المحنة، لئلا يَبْطُلُ معنى الابتلاء، وهو توجُّع القلب بالقهرية، وكذلك لما ألقي في النار أخفي عنه المراد منه، وهو السلامة منها ليحصل معنى الابتلاء. وهكذا يكون الحال في حال البلاء، [يسند عيون التهدي إلى الحال]. وكذلك كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم في الإفك، وأيوب عليه السلام، وإنما تبيّن الأمر بعد ظهور أجر المحنة وزوالها، وإلاَّ لم تكن حينئذ محنة، ولكن مع استعجام الحال وانبهامه؛ إذ لو كشف الأمر عن صاحبه لم يكن حينئذ بلاء. ه. ملخصاً.
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} قلت: «نبياً»: حال مقدرة من «إسحاق»، ولا بد من تقدير مضاف محذوف، أي: وبشرناه بوجود إسحاق نبيًّا، أي: بأن يُوجد مقدراً نبوته، فالعامل في الحال: الوجود، لا فعل البشارة، قاله الكواشي وغيره. يقول الحق جلّ جلاله: {وبشَّرناه} أي: إبراهيم {بإِسحاق} بعد امتحانه، {نبياً} أي: يكون نبيّاً. قال قتادة: بشِّره بنبوة إسحاق بعدما امتحنه بذبحه. قالوا: ولا يجوز أن يُبشَّر بنبوته وذبحه معاً؛ لأن الامتحان لا يصح مع كونه عالماً بأن سيكون نبيًّا. ه. قلت: لا يبعد أن يُبَشَّر بهما معاً قبل المحنة؛ لأن العارف لا يقف مع وعد ولا وعيد؛ لاتساع علمه، فإن الوعد قد يكون متوقفاً على شروط، قد لا يُلم العبد بها، وراجع ما تقدم عند قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} [يوسف: 110] بالتخفيف، وعند قوله: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11]. ثم قال قتادة: وهذه حجة لمَن يقول: إن الذبيح كان إسحاق. ومَن قال: كان إسماعيل الذبيح، قال: بشَّر إبراهيم بولد يكون نبيًّا بعد القصة، لطاعته. ه. وذكر ابن عطية عن مالك أنه نزع بهذه الآية لكون الذبيح إسماعيل، انظر بقية كلامه. وتقدّم الجواب عنه، فإنَّ الأُولى بولادته، وهو بنبوته. انظر الحاشية. وقوله: {من الصالحين}: حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء؛ لأن كل نبيّ لا بد أن يكون من الصالحين. قال ابن عرفة: الصلاح مقول بالتشكيك، فصلاح النبي أعظم من صلاح الولي. ه. {وباركنا عليه وعلى إِسحاقَ} أي: أفضنا عليهم بركات الدين والدنيا. وقيل: باركنا على إبراهيم في أولاده، وعلى إسحاق بأن أخرجنا من صلبه ألف نبيّ، أولهم يعقوب، وآخرهم عيسى عليه السلام. {ومن ذُريَّتِهما} أي: إبراهيم وإسحاق، وليس لإسماعيل هنا ذكر، استغناء بذكر ترجمته في مريم، {محسنٌ} مؤمن {وظالمٌ لنفسه} بالكفر {مبينٌ} ظاهر كفره. أو: محسن إلى الناس، وظالم لنفسه بتعدِّيه عن حدود الشرع. وفيه تنبيهٌ على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العِرق والعنصر، فقد يلد البرُّ الفاجرَ، والفاجرُ البرَّ. وهذا مما يهدم الطبائع والعناصر، وتنبيه على أن الظلم في أعقابهما لم يعدْ عليهما بعيب، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله، ويُعاقب بما كسبتْ يداه، لا على ما وجد من أصله وفرعه. قال النسفي. قلت: قاعدة «العرق نزاع» أغلبية، لا كلية. وقيل: هو حديث، فيكون أغلبيًّا، فالشجرة الطيبة لا تنبت في الغالب إلا الطيب، إلا لعارض، والشجرة الخبيثة لا تجد فروعها إلا مثلها، إلا لسبب. والله تعالى أعلم. الإشارة: البشارة الكبيرة، والبركة العظيمة، إنما تقع في الغالب بعد الامتحان الكبير، فبقدر الامتحان يكون الامتكان، وبقدر الجلال يعظم الجمال، فإنَّ مع العسر يُسراً. فبقدر الفقر يعقب الغنى، وبقدر الذل يعقب العز، إن كان في جانب الله. وقس على هذا... ويسري ذلك في العقب، كما هو مشاهد في عقب الصالحين والعلماء والأولياء. وبالله التوفيق.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد منَنَّا} أنعمنا {على موسى وهارونَ} بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية، {ونجَّيناهما وقومَهُما} بني إسرائيل، {من الكربِ العظيم} من الغرق والدهش الذي أصابهم، حين طلعت خيل فرعون عليهم، أو: من سلطان فرعون وقومه وعنتهم. {ونصرناهمْ} أي: موسى وهارون وقومهما؛ {فكانوا هم الغالبين} على فرعون وقومه. {وآتيناهما الكتابَ المستبينَ} البليغ في بيانه، وهو التوراة، {وهديناهما الصراط المستقيمَ} صراط أهل الإسلام، وهو الطريق الذي يُوصل إلى الحق، {وتركنا عليهما} الثناء الحسن {في الآخِرِين} الآتين بعدهما، {سلامٌ على موسى وهارونَ إِنَّا كذلكَ نجزي المحسنين إِنهما من عبادنا المؤمنين} الكاملين في الإيمان. الإشارة: منّ عليهما أولاً بالخصوصية، ثم امتحنهما عليها بالكرب العظيم، كما هي عادته في أهل الخصوصية، ثم مَنَّ عليهم بالفرج ولانصر والعز، ثم هداهما إلى طريق السير إليه، في الظاهر والباطن، بإنزال الكتاب، وبيان طريق الرشد والصواب، فالطريق المستقيم هي طريق الوصول إلى الحضرة، وشهود عين التوحيد الخاص، ثم ينشر الصيت والذكر الحسن في الحياة والممات. والله تعالى أعلم.
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)} يقول الحق جلّ جلاله: {وإِنَّ إِلياس لَمِنَ المرسلين} وهو إلياس بن ياسين بن العيزار، من سبط هارون عليه السلام. قال ابن إسحاق: لَمَّا قبض الله حزقيل النبي، عظمت الأحداث في بني إسرائيل، ونسوا عهد الله، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إلياس، وبنو إسرائيل حينئذ متفرقون في أرض الشام، وفيهم ملوك كثيرة. وذلك أن يوشع لمَّا فتح الشام بعد موسى عليه السلام وملكها، بوّأها بني إسرائيل، وقسمها بينهم، وأحلّ سبطاً منهم ببعلبك ونواحيها. ومنهم السبط الذي نشأ منهم إلياس. انظر الثعلبي. وقيل: إلياس هو إدريس. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: «وإن إدريس» موضع إلياس. والمشهور ما تقدّم. {إِذ قال لقومه ألا تتقون} ألا تخافون الله، {أتَدْعُون بَعْلاً} هو عَلَم لصنم، كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعاً، وكان له أربعة أوجه، فافتتنوا به وعظّموه، حتى أخدموه أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياءه. وكان الشيطان يُوسوس إليهم شريعة من الضلالة، وكان موضعهم يُسمى «بك» فركب معه وصار «بعلبكّ»، وهو من بلاد الشام، قلت: ويسمونه اليوم عكا، وفيه قبر صالح عليه السلام، وقيل: إن إلياس والخضر حيان، يلتقيان كل سنة بالموسم، فيأخذ كل واحد من شعر صاحبه. قيل: إن إلياس وُكِّلَ بالفيافي، والخضر وُكِّلَ بالبحار. وقيل: إن الله قطع عنه لذة المطعم والمشرب، وألبسَ الريش، وطار مع الملائكة، فصار إنسيًّا ملكيًّا، أرضيًّا سماويًّا. فهو ما زال حيًّا. فالله أعلم. ثم قال: {وتَذَرُونَ أحسنَ الخالقين} أي: تعبدون صنماً جامداً، وتتركون عبادة الله الذي هو أحسن الخالقين. {الله رَبَّكم وربَّ آبائِكم الأولين} من نصب الثلاثة فبدل، ومن رفعها فمبتدأ وخبر. {فكذَّبوه} فسلّط الله عليهم، بعد رفعه، أو موته، عدوًّا، فقتل ملكهم وكثيراً منهم، {فإِنهم لمُحضَرونَ} في النار، وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة، أو: لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر. {إِلا عبادَ الله المخلَصين} من قومه، فإنهم ناجون من حضور العذاب، {وتركنا عليه} الثناء الحسن {في الآخرين}. {سلامٌ على آل ياسين} وهو إلياس وأهله؛ لأن «ياسين» اسم أبيه. وقرأ أكثر القراء: إلياسين، بكسر الهمزة ووصل اللام، أي: إلياس وقومه المؤمنين، كقولهم: الخُبَيْبون والمهَلَّبون، يعنون عبد الله بن الزبير وقومه. والمهلَّب وأتباعه. {إِنا كذلك نجزي المحسنين. إِنه من عبادنا المؤمنين} وقيل: آل ياسين هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأهله، والسياق يأباه. الإشارة: يُؤخذ من قوله تعالى: {ألا تتقون أتدعون بعلاً...} الخ، أن مدار التقوى هو توحيد الله، والانحياش إليه، والبُعد عن كل ما سواه، والرجوع إلى الله في كل شيء، والاعتماد عليه في كل حال. ويؤخذ من قوله: {سلام على آل ياسين} في قراءة المد، أن الرجل الصالح ينتفع به أهله وأقاربه، وهو كذلك؛ فإن عَظُمَ صلاحه تعدّت منفعته إلى جيرانه وقبيلته، فإذا كبر جاهه شفع في الوجود بأسره.
{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} يقول الحق جلّ جلاله: {وإِنَّ لوطاً لمنَ المرسلين إِذ نجيناه} أي: واذكر إذ نجيناه {وأهلَه أجمعين إِلا عجوزاً في الغابرين} في الباقين؛ لأنها شاركتهم في عصيانهم، فحقّ عليهم العذاب مثل ما حقّ عليهم، {ثم دمرنا}: أهلكنا {الآخَرِين وإِنكم لتَمُرُّونَ عليهم مُصبحينَ} داخلين في الصباح، {وبالليلِ} أي: ومساء، أو: نهاراً وليلاً. ولعل مدينتهم الخالية كانت قريب منزل ينزل به المسافر، فيغدو منه ذهاباً، ويروح إليه إياباً، فكانت قريش تنزل به وتروح عنه في متاجرهم إلى الشام، فتشاهد آثارهم الدارسة، وديارهم الخالية. {أفلا تعقِلون} أفما فيكم عقول تعتبرون بها؟ وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام، كما ختم قصص مَن قبلهما؛ لأن الله تعالى قد سَلَّمَ على جميع المرسلين في آخر السورة، أو: تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع، من أُولي العزم. الإشارة: ينبغي لمَن له عقل إذا مرَّ بآثار مَن سلف قبله أن يعتبر، وينظر كيف كان حالهم، وإلى ما صار إليه مآلهم، وأنه عن قريب لا حق بهم، فيتأهّب للسفر، ويتزوّد للمسير. وبالله التوفيق.
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} يقول الحق جلّ جلاله: {وإِن يُونُسَ} بن متى، اسم أبيه، {لَّمِنَ المرسلينَ} إلى أهل نَيْنَوى، فكذَّبوه، فوعدهم بالعذاب، فلما رأى أمارات العذاب هرب عنهم، وهي معنى قوله: {إِذْ أَبَقَ} هرب. والإباق: الهرب إلى حيث لا يهتدي إليه الطلب، فسمي هربه من قومه بغير إذن ربه إباقاً، مجازاً. رُوي أنه لمَّا فرَّ عنهم، وقف في مكان ينتظر نزول العذاب بهم، وكان يُحب ذلك؛ لتكذيبهم إياه، فلما رأوا مخايل العذاب تابوا وخرجوا إلى الصحراء، يجأرون إلى الله تعالى، فكشف عنهم، فلما رأى يونس العذابَ انكشف عنهم، كره أن يرجع إليهم، فركب البحر، فأوى {إِلى الفُلْكِ المشحونِ}: المملوء بالناس والمتاع، فلما ركب معهم وقفت السفينة، فقالوا: هاهنا عبد آبق من سيده. وفيما يزعم أهل البحر: أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجرِ، فاقترعوا، فخرجت القرعةُ على يونس، فقال: أنا الآبق، وزجّ بنفسه في البحر، فذلك قوله: {فَسَاهَمَ}: فقارعهم مرة أو ثلاثاً بالسهام، {فكان من المدْحَضِين} المغلوبين بالقرعة. {فالتقمه الحوتُ} فابتلعه {وهو مُلِيمٌ} داخلٌ في الملامة، أو: آتٍ بما يُلام عليه، ولم يُلَم فإذا ليم كان مألوماً. {فلولا أنه كان من المسبِّحينَ} من الذاكرين كثيراً بالتسبيح، أو: من القائلين: {لآَّ إِلَهَ إِلآَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مَنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] أو: من المصلين قبل ذلك؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. قال الحسن: ما كان له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدّم عملاً صالحاً فنجَّاه، وإنَّ العمل الصالح يرفع صاحبه، إذا عَثَرَ وجد متكئاً. ه. أي: فلولا طاعته قبل ذلك {لَلَبِثَ في بطنه إِلى يوم يُبعثون} قيل: للبث حيًّا إلى يوم البعث. وعن قتادة: لكان بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة. وقد لبث في بطنه ثلاثة أيام، أو: سبعة أو: أربعين يوماً. وعن الشعبي: التقمه ضحوة، ولَفَظَه عشية. قيل: أوحى الله تعالى إلى الحوت: إني جعلت بطنك ليونس سجناً وفي رواية: مسجداً ولم أجعله لك طعاماً. ه. {فَنَبَذْناه} أي: أخرجناه {بالعراءِ} بالمكان الخالي، لا شجر فيه ولا نبات. أو: بالفضاء، {وهو سقيم} عليل مطبوخ، مما ناله من بطن الحوت. قيل: إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يُولد. {وأنبتنا عليه شجرةً} أي: أنبتناها فوقه، مُظلة كما يطنَّب البيتُ على الإنسان، {من يَقْطِينٍ} الجمهور على أنه القرع، وفائدته: أن الذباب لا تجتمع عنده، وأنه أسرع الأشجار نباتاً، وامتداداً، وارتفاعاً، وأن ورقه باطنها رطبة. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتُحب القرع، فقال: «أجل، هي شجرة أخي يونس» قلت: ولعلها النوع الذي يُسمى اليوم «السلاوي»؛ لأنه هو الذي ورقه لينة، وفيه منافع. رُوي أن ظبية كانت تختلف إليه، فيشرب من لبنها بكرة وعشية، حتى نبت لحمه، وأرسل الله تعالى على اليقطين دابة تقرض ورقها، فتساقطت حتى أذته الشمس، فشكاها إلى الله تعالى. وفي رواية: فحزن عليها، فقيل له: أنت الذي لم تخلُق، ولم تسقِ، ولم تُنبت، تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تُريد مني أن أستأصِلَهم في ساعة واحدة، وقد تابوا، وتُبت عليهم، فأين رحمتي يا يونس، أنا أرحم الراحمين. ه. {وأرسلناه إِلى مائةِ ألفٍ} المراد به القوم الذين بُعث إليهم قبل الالتقام، فتكون «قد» مضمرة، {أو يزيدون} في مرأى الناظر، أي: إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. وقال الزجّاج: «أو» بمعنى «بل». وقيل: بمعنى الواو. قال ابن عباس: زادوا على مائة ألف عشرين ألفاً. وقال الحسن: بضعاً وثلاثين ألفاً. وقال ابن جبير: سبعين ألفاً. وقيل: وأرسلناه بعد الالتقام إلى مائة ألف. وقيل: قوماً آخرين. {فآمنوا} به، وبما أُرسل به، {فمتعناهم} بالحياة {إِلى حين} منتهى أجلهم، ولم يُعاجَلوا، حيث تابوا وآمنوا. الإشارة: في قصة يونس نكتة صوفية، ينبغي الاعتناء بها، وهو أن العبد إذا زلّت قدمُه، وانحطّ عن منهاج الاستقامة، لا ييأس ولا يضعُف عن التوجه، بل يلزم قرعَ الباب، ويتذكر ما سلف له من صالح الأعمال، فإن الله تعالى يرعى ذمام عبده، كما يرعى العبد ذمام سيده، وفي حال البُعد والغضب يظهر المحب الصادق من الكذّاب، وفي ذلك يقول ابن وفا رضي الله عنه: ونحن على العهد نرعى الذمام *** وعهد المحبين لا ينقضي صددت فكنت مليح الصدود *** وأعرضتَ أُفديك من معرض وفي حالة السخط لا في الرضا *** بيان المحب من المُبغض وفيها أيضاً: الحث على الشفقة على عباد الله، وإن كانوا عصاة. قال القشيري: وفي القصة: أن الله تعالى أوحى إلى يونس بعد نجاته: قُلْ لفلانٍ الفَخَّار: يَكْسِرَ من الجرات ما عمله في هذه السنة كلّها، فقال يونس: يا ربِّ، إنه تعنَّى مدة في إنجاز ذلك، فكيف آمُره يكسرها كلّها؟ فقال له: يا يونس، يَرِقُّ قلبُك لخزاف يُتْلِفُ عَمَلَ سنةٍ، وأردتَ أن أُهْلِكَ مائةَ ألفٍ من عبادي؟ لم تخلقهم، ولو خَلَقْتَهم لرحمتهم. ه. ثم وبَّخ قريشاً على قولهم: الملائكة بنات الله بعد ذكر هلاك مَن كفر من الأمم قبلهم، تهديداً.
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)} يقول الحق جلّ جلاله: {فاسْتَفتهم ألِرَبِّكَ البناتُ ولهم البنونَ} أَمَرَ رسولَه أولاً في أول السورة باستفتاء قريش على وجه إنكار البعث، بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} [الصافات: 11] ثم أمره هنا باستفتائهم عن وجه القسمة الضّيزى التي قسموها، بأن جعلوا لله الإناث، ولهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم لهن، واستنكافهم من ذكرهن، وليس من باب العطف النحوي، خلافاً للزمخشري. {أَمْ خلقنا الملائكةَ إِناثاً وهم شاهدون} حاضرون حتى تحققوا أنهم إناث. وتخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم، وتجهيل لهم، لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدةً، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر، بل بمجرد ظن وتخمين، وإلقاء الشيطان إليهم. أو: معناه: أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس؛ لإفراط جهلهم، كأنهم شاهدوا خلقهم. {ألاَ إِنهم من إِفْكِهِمْ لَيقولون وَلَدَ اللهُ وإِنهم لكاذبون} في قولهم. {أَصْطَفَى البناتِ على البنين} الهمزة للاستفهام الإنكاري، وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء، {ما لكم كيف تحكمون} هذا الحكم الفاسد، الذي لا يرتضيه عقل ولا نقل، {أفلا تَذَكَّرُون} فتعرفوا أنه منزّه عن ذلك؟ {أم لكم سلطان مبين} حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله؟ {فأْتوا بكتابكم} الذي أنزل عليكم، {إِن كنتم صادقين} في دعواكم. {وجعلوا بينه} بين الله {وبين الجِنَّةِ} الملائكة لاستتارهم، {نَسَباً} وهو زعمهم أنهم بنات الله. أو: قالوا: إن الله صاهر الجن، تزوج سَرَوَاتِهم فولدت له الملائكة، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً. {ولقد عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنهم لمُحْضَرُونَ} أي: ولقد علمت الملائكة إن الذين قالوا هذا القول لمحضرون في النار. أو: لقد علمت الملائكة أنهم سيحضرون للحساب من جملة العباد، فكيف تكون بنات الله؟ {سبحان الله عما يصفون} نزّه نفسه عما يصفه الكفرة من الولد والصاحبة، {إِلا عبادَ الله المخلَصين} استثناء منقطع من «المحضرين»، أي: لكن المخلصون ناجون من النار. و«سبحان الله»: اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه، ويجوز أن يقع الاستثناءُ من واو «يصفون»، أي: عما يصفه هؤلاء الكفرة لكن المخلصون برءاء من أن يصفوه بذلك. الإشارة: الحق تعالى في عالم القدرة منزَّه عن الولد والصاحبة، وتصور الأثنينية، وإنما سر الازدواج والتولد خاص بعالم الحكمة في حضرة الأشباح، فليكن للعارف عينان عين تنظر لعالم القدرة في حضرة أسرار الذات، فتوحّد الله، وتنزهه عن الاثنينية، وعين تنظر لعالم الحكمة، فتثبت سر الازدواج والتولد في حضرة الأشباح، والمظهر واحد، ولا يفهم هذا إلا الأفراد من البحرية، الذين خاضوا بحر أحدية الذات وتيار الصفات، فحطَّ رأسك لهم، إن أردت أن تذوق هذه الأسرار. وإلا فسلّم تسلم.
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} يقول الحق جلّ جلاله: {فإِنكم} أيها المشركون {وما تعبدون} أي: ومعبوديكم، {ما أنتم} وهم جميعاً {عليه} على الله {بفاتِنين} بمضلّين، {إِلا من هو صَالِ الجحيم} أي: إلا مَن سبق في علمه أنه من أهل النار. والمعنى: إنكم لستم تضلُّون أحداً إلا أصحاب النار، الذين سبق في علمه أنهم يستوجبون بأعمالهم النار، يقال: فتن فلانٌ على فلانٍ امرأته: أفسدها عليه. وقال الحسن: فإنكم أيها القائلون لهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام، ما أنتم على عبادة الأصنام بمضلّين أحداً، إلا مَن أوجبتُ عليه الضلال في السابقة. ه. وفيها دليل للقدر، بل هي صريحة فيه. و«ما» في «أنتم»: نافية، و«مَن»: في موضع النصب بفاتنين، على الاستثناء المفرغ، أي: لا تفتنون إلا الذي هو صالي الجحيم. وحذفت الياء في الرسم اكتفاء بالكسرة، وقرأ الحسن: «صالُ الجحيم» بضم اللام ووجهه: أنه جمْع، فحذفت النون للإضافة. والواو لالتقاء الساكنين، و«مَن» مفرد في اللفظ، جمع في المعنى، فحمل «هو» على اللفظ، و«الصالون» على المعنى. الإشارة: ويقال لمَن يُرغّب الناس في الدنيا، ويدلهم على جمعها، والاعتناء بها، بمقاله، أو بحاله، ويزهّد في طريق التجريد والانقطاع إلى الله: ما أنتم بقانتين أحداً عن طريق الله، إلا مَن سبق أنه يصلى نار القطيعة والبُعد، وأما مَن سبقت له سابقة الوصال، فلا يصده عن الله فاتن ولا ضال. ولا شك أن مَن يدلّ الناس على الدنيا فقد غشّهم. قال القطب ابن مشيش رضي الله عنه: مَن دلّك على الدنيا فقد غشك، ومَن دلّك على العمل فقد أتبعك، ومَن دلّك على الله فقد نصحك. ه. فالدلالة على الدنيا من شأن المغرورين، ورين الفاتنين، والدلالة على العمل من شأن الصالحين، الواقفين مع ظاهر الشريعة وعملها، والدلالة على الله من شأن العارفين أهل التربية، يدلون على الله، بسقي الكؤوس، ونسيان النفوس، ودخول حضرة القدوس، من باب الكرم والجود. وبالله التوفيق.
{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} يقول الحق جلّ جلاله حاكياً عن الملائكة: {وما منّا إِلا له مَقامٌ معلومٌ} في العبادة، أو: في السموات، نعبد الله فيه، أو: في القُرب والمشاهدة لا نتعداه، ولا نترقى عنه إلى غيره، ففيه تنبيه واعتراف بافتقارهم لمخصصهم، القاضي بحدوثهم. وفي اعترافهم بذلك ردٌّ على زعم الكفار أنهم بنات الله، أو شركاء له، وتنزيه له تعالى عن ذلك؛ لتنافي العبودية والطاعة التي اعترفوا بها، والبنوة المدّعاة من الكفار، تعالى الله عن قولهم. وهذا يجري أيضاً في القول الذي يقول: إنهم قسم ثالث، ليسوا بجوهر ولا عرض، كالأرواح، فإنها على تقدير كونها كذلك، جائزة؛ لقبولها التفاوت في العلوم والمعارف وغير ذلك. وذلك قاضٍ بالافتقار، والتخصيص لِمَا هي عليه، المستلزم للحدوث. قاله في الحاشية. قلت: القول بأن الملائكة مجردات عن المادة، هو قول الفلاسفة، ونحى إليه الغزالي. وهو مناقض للقرآن والحديث؛ لأن كونهم صفوفاً قائمين، أو ساجدين، أو سائرين، يقتضي تشكيلَهم وتحييزَهم، فيستلزم المادة؛ إلا أنها نورانية لطيفة، وكذلك الأرواح، على ما في الأحاديث، فإنها متحيزة على أشكال لطيفة. والله أعلم. {وإِنا لنحن الصافُّون} نصفّ أقدامنا في الصلاة، أو: نصفّ حول العرش داعين للمؤمنين، {وإِنا لنحنُ المسبِّحُون} المنزّهون الله تعالى عما نسبته إليه الكفرة، من الولد، وغير ذلك من الأباطيل المذكورة. أو: المشتغلون بالتسبيح على الدوام، أو: المصلُّون. ويحتمل أن يكون هذا وما قبله؛ من قوله: {سبحان الله...} الخ، من كلام الملائكة، حتى يتصل بذكرهم، كأنه قيل: ولقد عَلِمَ الملائكةُ أن المشركين محضرون للعذاب على افترائهم على الله فيما نسبوا إليه، وقالوا: سبحان الله، ونزّهوه عن ذلك، واستثنوا عباد الله المخلصين، وبرّؤوهم من ذلك، وقالوا للكفرة: وإذا صحّ ذلك؛ فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه، وتضلُّوه، إلاّ مَن كان من أهل النار، وكيف نكون مناسِبين لرب العزة! وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه، لكلّ منا مقامٌ من الطاعة معلومٌ، لا يستطيع أن يزلَّ عنه، ونحن نصفّ أقدامنا لعبادته، مسبِّحين بحمده، كما يجب على العباد. ولعل قولهم: {وما منا إِلا له مقام معلوم} إشارة إلى تفاوتهم في درجات القُرب ومقامات اليقين: وقولهم: {وإِنا لنحن الصافُّون} إشارة إلى تفاوتهم في الطاعات والعبادات، وهم طبقات: منهم هائمون مستغرقون في الشهود، ومنهم مستغرقون في مقام الهيبة والمراقبة، ومنهم مستغرقون في الخدمة والعبادة. والله تعالى أعلم. الإشارة: مادة الآدمي أكمل من مادة الملائكة، فإذا اتصل العبد بشيخ كامل، واعتنى بتصفية روحه وسره، طَوى نوره الوجودَ بأسره، ولا يزال يترقى في معاريج أسرار التوحيد والتفريد، وتتوارد عليه الكشوفات، والعلوم، والأسرار، في هذه الدار الفانية، وفي تلك الدار الباقية، أبداً سرمداً، بخلاف الملائكة، فإنَّ لكل واحد مقاماً معلوماً لا يتعداه، كما أخبر تعالى: وسرُّ ذلك: أن الآدمي فيه بشرية وروحانية، فكلما جاهد نفسه، وغاب عن حس بشريته؛ ترقى في معارج التوحيد، والمجاهدة لا تنقطع عنه في هذه الدار؛ لأنها دار أكدار، فلا ينقطع عنه الترقي في المشاهدة، وأما في تلك الدار؛ فالترقي فيها من باب الكرم والإثابة على ما هنا. وأيضاً: البشرية للآدمي بمنزلة الطلاء للمِرآة، فالمرآة بلا طلاء لا ترى فيها صور الأشياء، كذلك الملائكة لا بشرية لهم، فلا تنكشف لهم الحقائق كما تنكشف للآدمي، ولو كشف لهم ما انكشف له لذابوا. والله أعلم. قال في القوت: لَعمري إن سائر الملائكة لا ينتقلون في المقامات كترقي المؤمنين، إنما لكلٍّ مقام معلوم، لا ينتقل إلى غيره، إلا أنهم يُمدّون من ذلك بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة، بأكثر ما يزاد جملة البشر ه. قلت: ومعنى كلامه: أن الملائكة يُمدون في مقامهم بقوة لا يستطيعها البشر، فمَن كان في مقام الهيبة دام فيها، وقَوِي عليها، ومَن كان في مقام الخدمة، دام عليها، وقوي عليها، قوةً لا يطيقها البشر، ولا يترقى عنها، بخلاف الآدمي، فليست فيه هذه القوة، لكنه يترقى من مقام إلى مقام، ويترقى في المعارف على الدوام. ثم بسط صاحب القوت في ذلك الكلام في فضائل الصلاة، وأنها جامعة لما فُرق على الملائكة من الأعمال والأذكار. قال: وبذلك فضل المؤمنون الملائكة، وكذلك فضل الموقن أيضاً في مقامات اليقين من أعمال القلوب، على الأملاك بالتنقيل بأن جُمعت فيه، ورُفع فيها مقامات، والملائكة لا يُنقلون، بل كل ملك موقوف في مقام معلوم، لا ينقل منه إلى غيره، وإنما له المزيد من المقام الواحد على قدر قواه، وجمع ذلك كله في قلب المؤمن، ونقل فيه مقامات. وكان له من كل مقام مشاهدات. ه. قال المحشي الفاسي: وفيه نظر، مع تلقيهم ضروب الوحي الجامع للمقامات، فكيف لا يُمكّنهم تحققاً بها على اختلافها؟ ولو كان كما قال؛ لكان كل مَلَكٍ إنما يتلقى من الوحي ما يناسبه، ويختص بمقامه، وليس الأمر كذلك ضرورة. ه. قلت: وفي نظره نظر؛ إذ لا يلزم من تلقيهم للوحي على أنواعه أن يترقوا به؛ إذ ليس الترقي هو مجرد العلم، بل الترقي إنما هو أذواق ووجدان، وكشوفات بعد حصول العلم. وقد يتحقق العلم بالمقام، ولا ينتقل عنه إلى غيره، بل قد يعلمه ولا يذوقه، كما هو محقق عند أهل الفن، ثم قال: والحق ما نبّه عليه البيضاوي. وكلام القوت ينظر لقول الحكماء، ومثله كلام الإحياء. ه. ونص البيضاوي في قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} [البقرة: 33] الآية: إنَّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، والحكماء مَنعوا ذلك في الطبقات العليا منهم، وحملوا عليه قوله تعالى: {وما منا إِلا له مقام معلوم}. ه. قلت: ترقي الآدمي هو انتقاله من مقام إلى مقام، حتى يُكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات، ثم لا يزال يترقى في الأذواق والكشوفات، يتجدّد له في كل يوم وساعة، حلاوة وكشف لم تكن عنده قبلُ، بخلاف الملائكة، فإنما يترقى كل واحد في كشف أسرار مقامه، ويجد حلاوة في ذلك المقام لم تكن له قبلُ، ولا ينتقل عنه، فمَن كان من أهل الخدمة زاده الله حلاوتها. ومَن كان من أهل المراقبة فكذلك. ومَن كان من أهل المشاهدة غلب عليه السكر والهذيان، ولا يزيد على ذلك. وهم الطبقة العليا، فلا منافاة بين كلام القوت وكلام البيضاوي؛ لأن الترقي إنما هو في الأذواق والكشوفات، لا في العلوم الغيبية، ولا في الكمالات النفسية. فتأمله. وقال القشيري: الملائكة لا يتخطون مقامهم، ولا يتعدَّوْن حدَّهم، والأولياء مقامهم مستورٌ بينهم وبين الله، لا يطلع عليه أحد، والأنبياء عليهم السلام لهم مقام مشهورٌ، مُؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة؛ لأنهم للخَلْقِ قدوة، فأمْرُهُم على الشهرة، وأَمْرُ الأولياء على السَّتْرِ. ه. وقال الورتجبي: أهل البدايات في مقام الطاعات، والأوْسَاط في المقامات، مثل التوكل والرضا، والتسليم، والمُحبُّون في مقامات الحالات والمواجيد، وأهل المعرفة في مقام المعارف، ينقلون في المشاهدة من مقام إلى مقام، ولا يبقى المقام للموحدين، فإنهم مستغرقون في بحار الذات والصفات، فليس لهم مقام معلوم؛ لأن هناك لم يكن لهم وقوف، حيث أفناهم قهرُ الجلال، والجمال، والعظمة، والكبرياء، عن كل ما وجدوا من الحق، فيبقوا في الفناء إلى الأبد. ه. قلت: ما ذكر من الطبقات الثلاث هم العباد، والزهّاد، وأرباب الأحوال، وحالهم كحال الملائكة، يُمَدُّون في مقامهم، ولا ينتقلون منه، فلكل واحدة قوة في مقامه، لا يطبقها العارف، لكنه فاتهم بالترقي عنهم إلى مشاهدة الذات، والترقي فيها أبداً. ثم قال الورتجبي في قوله تعالى: {وإِنا لنحن الصافُّون}: لمَّا كانوا من أهل المقامات المعلومات افتخروا بمقاماتهم في العبودية، من الصلاة والتسبيح، ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعتهم، من استيلاء أنوار مشاهدة الحق عليهم، والاستغراق في بحارٍ من الألوهية. قال بعضهم: لذلك قطعت بهم مقاماتُهم عن ملاحظة المِنَّة، حتى قالوا بالتفخيم: {إِنا لنحن} فلما أظهروا سرائرهم عارضوا إظهار أفعال الربوبية بالمعارضة، حتى قالوا: {أتجعلُ فيها من يُفسد فيها} [البقرة: 30]. ه. وكلامنا كله مع عامة الملائكة، وأما المقربون؛ فالأدب الإمساك عنهم صلوات الله وسلامه عليهم.
{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} يقول الحق جلّ جلاله: {وإِن كانوا} أي: مشركو قريش {لَيَقُولون} قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم: {لو أنَّ عندنا ذِكْراً من الأولين} أي: كتاباً من كتب الأولين، الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، {لكُنَّا عبادَ الله المخلصين} أي: لأخلصنا لله، وما كذّبنا كما كذَّبوا، ولَمَا خالفنا كما خالفوا، فلما جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو مهيمن على الكتب، فكفروا به، {فسوف يعلمون} عاقبة تكذيبهم، وما يحلّ بهم من الانتقام. و«إن» مخففة، واللام فارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولون، مؤكّدين للقول، جادّين فيه، ثم نقضوا بأشنع نقض، فكم بين أول الأمر وآخره!. ثم بشَّر رسولَه بالنصر والعز، فقال: {ولقد سبقتْ كلمتُنا لعبادنا المرسَلين} أي: وعدناهم بالنصر والغلبة. والكلمةُ هي قوله: {إِنهم لَهُمُ المنصورون} دون غيرهم، {وإِنَّ جُندَنا لهم الغالبون} وإنما سمّاها كلمةٌ، وهي كلمات؛ لأنها لَمَّا انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة، والمراد: الوعد بعلوّهم على عدوهم في مقام الاحتجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة. وعن الحسن: ما غُلب نبيّ في حرب قط. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إن لم ينتصروا في الدنيا نُصروا في العُقبى. والحاصل: أن قاعدة أمرهم، وأساسَه، والغالب منه: الظفَرُ والنصر، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة فنادر، والعبرة بالغالب. {فتولَّ عنهم حتى حين} إلى مدة يسيرة. وهي المدة التي أُمهلوا فيها، أو: إلى بدر، أو: إلى فتح مكة، {وأَبْصِرْهُم} أي: أبصر ما ينالهم، والمراد بالأمر: الدلالة على أن ذلك كائن قريب، {فسوف يُبْصِرُون} ما قضينا لك من النصر والتأييد، والثواب الجزيل في الآخرة. و«سوف» للوعيد، لا للتبعيد. ولَمّا نزل: {فسوف يُبْصرُون} قالوا: متى هو؟ فنزل: {أفبعذابنا يستعجلون} قبل وقته؟ {فإِذا نَزَلَ} العذاب {بساحتهم فسَاءَ صباحُ المنذَرِين} صباحهم. واللام للجنس؛ لأن «ساء» و«ليس» يقتضيان ذلك. قيل: هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة. وقيل: نزول العذاب بهم يوم القيامة. شبهه بجيش هَجَمَ فأناخ بفنائهم بغتةً. والصباح: مستعار من: صباح الجيش المبيت، استعير لوقت نزول العذاب. ولَمّا كثرت الغارة في الصباح سموا الغارة صباحاً، وإن وقعت في غيره. {وتولَّ عنهم حتى حينٍ وأبْصِرْ فسوف يُبصِرون} كُرر ليكون تسلية بعد تسلية، وتأكيداً لوقوع الوعد إلى تأكيد، وفيه فائدة، وهو إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول، بعد التقييد له، إيذان بأنه يُبْصِر من صنوف المسرة ويُبصرون من أنواع المساءة ما لا يفي به نطاقُ العبارة. وقيل: أريد بأحدهما: عذاب الدنيا، وبالآخر: عذاب الآخرة. {سبحانَ ربك ربِّ العزة} أضيف الربّ إلى العزة لاختصاصه بها، أو: يريد: أن ما من عزّ لأحد إلا وهو ربها ومالكها، لقوله: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} [آل عمران: 26] أي: تنزيهاً له عما يصفون من الولد والصاحبة والشريك. {وسلامٌ على المرسلين} عمّم الرسل بالسلام بعدما خصص البعض في السورة؛ لأن في تخصيص كلٍّ بالذكر تطويلاً. {والحمدُ لله ربِّ العالمين} على هلاك الأعداء، ونصرة الأنبياء. قيل: في ختم السورة بالتسبيح بعدما تضمنته السورة من تخليط المشركين وأكاذيبهم، ونسبتهم إلى جلاله الأقدس ما لا يليق بجنابه الأرفع، تعليم للمؤمنين ما يختمون به مجالسهم؛ لأنهم لا يخلو إذا جلسوا مجلساً من فلتة أو هفوة، وكلمات فيها رضى الله وسخطه، فالواجب على المؤمن إذا قام من مجلس أن يتلو هذه الآية؛ لتكون مكفرة لتلك السقطات، ويحمد لِمَا وفق من الطيبات، ومن ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم: «كلمات لا يتكلمُ بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات؛ إلا كُفِّرَ بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خيرٍ، ومجلس ذكرٍ، إلا ختم الله بهن، كما يُخْتَمُ بخاتم على الصحيفة؛ سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» والمراد هو ختم المجلس أو الكلام بالتنزيه. وعن عليّ كرّم الله وجهه: مَن أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون}... الخ. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سلمتم عليَّ فسلِّموا على المرسلين، فإنما أنا أحدهم». الإشارة: ترى بعض الناس يقول: لو ظهر شيخ التربية لكُنَّا من المخلصين، بصحبته وخدمته، فلما ظهر كل الظهور جحد وكفر، وأَنِفَ واستكبر، وقنع بما عنده من العلم، فإذا رأى ما ينزل بأهل النسبة من أصحابه، من الامتحان في أول البادية، قال: ليس هذه طريق الولاية، فيقال له: ولقد سبقتْ كلمتُنا لعبادنا المرسلين، ولِمن كان على قدمهم، إنهم لَهُمُ المنصورون، وإِنَّ جندنا لهم الغالبون، فتولّ عن مثل هذا حتى حين، وهو وقت هجوم الموت عليه، وأبصر ما يحلّ به من غم الحجاب، وسوء الحساب، فسوف يُبصرون ما يناله أهل النسبة من الاصطفاء والتقريب، فإذا طلب الكرامة بالانتصار ممن ظلمهم، فيقال له: {أفبعذابنا يستعجلون...} الآية. والغالب عليهم الرحمة. فإذا أُوذوا قابلوا بالإحسان، إذ لم يروا الفعل إلا من الرحمن، فينزهونه بقولهم: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين}.
|